في أكبر وأخطر عمليات خلط الأوراق، هذا المقال التحليلي المتواضع السعي إلى تلمس وقائع الأمور، ما ظهر منها على سطح الأحداث أو استتر.
وفيما تعيش المنطقة على إيقاع مقياس «ريختر- النووي» وبعيد ساعات قليلة من الإعلان عن التفاهم الذي تم التوصل إليه بين الدول الست والجمهورية الإسلامية في إيران، اندلعت العواصف والأعاصير في أماكن مخــتلفــة من دول المنطقة.
سابقاً ظهرت مقولة إذا كنت تريد الوصول إلى السلام، فعليك أن تكون جاهزاً ومستعداً لخوض الحرب... أو ما نسميه «حرب السلام»! وما حدث، من اليمن إلى سائر بؤر التوتر والتفجر مما يغطي خريطة المنطقة، أظهر عكس المعادلات التي كانت قائمة أو سائدة في «تقاليد» هذه البقعة الحساسة من العالم.
فحرب اليمن اندلعت شرارتها مع إعلان خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز عن «عاصفة الحزم»، واتبعها بنوع آخر من «العواصف الإيجابية»، والتي اقترنت بالدعوة إلى الأمل، وفي هذا التوقيت بالذات تداخلت مجموعة تطورات إضافة إلى المشهدية المعقدة للمنطقة، فحجبت الرؤية التي بدأت تتكون مع الإعلان عن التوصل إلى «إطار التفاهم» الغربي - الإيراني، والمقرر أن يتم «تتويجه» مبدئياً يوم 30 حزيران (يونيو) المقبل، إذا لم يحدث ما هو في الحسبان وغير الحسبان.
هذا التفاهم العريض بين الدول الخمس زائدة واحدةً وإيران، واجه الكثير من التوترات وعلامات الاستفهام لدى المملكة العربية السعودية وسائر دول أعضاء مجلس التعاون الخليجي، حيث تولد لديها المزيد من الهواجس والريبة والعتب على الولايات المتحدة التي لم تشركها في مضمون تفاصيل هذا التفاهم وانعكاسه على المنطقة، بخاصة عندما نعلم حجم أزمة الثقة المتراكمة على مدى سنوات طويلة بين السعودية وسائر دول المنظومة الخليجية من جهة وإيران من جهة ثانية.
هذا التطور أرغم وزير الخارجية الأميركي جون كيري على الطيران إلى الرياض ليكون الضيف الأول والأبرز الذي يستقبله الملك سلمان فور تسلمه مقاليد الحكم. وفي هذا السياق نفسه، من المقرر أن يلتقي قادة وزعماء مجلس التعاون مع الرئيس الأميركي باراك أوباما في منتجع كامب ديفيد القريب، جغرافياً من العاصمة واشنطن.
سؤال: هل كان اختيار الرئيس أوباما اعتباطياً أو عشوائياً لكامب ديفيد لاسقبال ضيوفه الخليجيين؟
لماذا هذا التساؤل؟
جواب: كان كامب ديفيد - الأول ما انعقد في 1977 بين الرئيس أنور السادات ورئيس الوزراء الإسرائيلي مناحيم بيغن، واقترن بعقد صلح عربي - إسرائيلي أول، ولا يزال يشار إلى المفاوضات بين مصر وإسرائيل على أنها «اتفاقات كامب ديفيد».
إذاً... ما الرابط بين الحدثين؟
لعل الرئيس الأميركي السابق جيمس كارتر عراب اتفاقات كامب ديفيد ومعه الفكر الأميركي اللماح والبارز الدكتور زبيغنيو بريجنسكي، أوحيا إلى الرئيس أوباما بتنظيم كامب ديفيد الثاني الذي سيحمل تفاصيل عقد المصالحة بين دول العالم والجانب الإيراني الفارسي. وفي سياق التداخل بين الاجتماع الآتي في «كامب ديفيد» والمضمون العام الذي سيصارح به أوباما ضيوفه، نعرض ولو بإيجاز لما يمكن تسميته «فلسفة أوباما الإيرانية»، والأسباب والدوافع التي حدت به للانتقال إلى «الموقع الجديد» من التقارب مع إيران، والضمانات التي سيتمكن من تقديمها إلى ملوك وزعماء الخليج العربي، في سعي لتبديد هواجسهم حيال الطموحات التوسعية لإيران، والتي لا تخفي طهران التعبير عنها.
في التصور العام، يصف أوباما التوصل إلى «اتفاق الإطار» بما يمكن اعتباره «الفرصة الذهبية لنزع تلك اللافتة من مكانها العتيق وللتخفيف من حالة الحرب الباردة المشتعلة بين الولايات المتحدة وإيران، والتي كدرت صفو المنطقة لما يربو على 36 عاماً، غير أنها فرصة محفوفة بالكثير من الأخطار بالنسبة إلى أميركا وإسرائيل وحلفائنا من العرب السنّة، إذ يمكن إيران أن تتحول في نهاية الأمـر إلى دولة مسلحة نووياً».
ويضيف: «نحن أقوياء بما فيه الكفاية، وتمكننا قوتنا من اختيار تلك الأطروحات من دون تعريض أنفسنا لأخطارها. وفي ما يتعلق بإيران، وهي دولة خطيرة واضطلعت بأنشطة كثيرة أسفرت عن مقتل كثر من المواطنين الأميركيين. لكن الحقيقة تكمن في أن موازنة إيران الدفاعية تقدر بـ30 مليار دولار، أما موازنتنا الدفاعية فتتجاوز 600 مليار دولار، وهكذا تدرك إيران أن لا طاقة لها على قتالنا».
ويطرح أوباما السؤال على نفسه بقوله: تسألون عن عقيدتي. عقيدتي في ذلك هي: «أننا سنتفاعل معهم (الإيرانيين) لكننا سنحتفظ في الوقت ذاته بكامل إمكاناتنا».
ويتابع شارحاً مضمون «فلسفته الإيرانية» بقوله أن الفكرة القائلة أن إيران قوة لا رادع لها ليست هي القضية الرئيسية، لكن في الحقيقة تمكننا تسوية تلك القضايا بالوسائل الديبلوماسية ونحن أكثر أمناً وأكثر سلامة وفي وضع أفضل لحماية حلفائنا، لكن من يدري؟ فقد تتغير إيران وإذا لم يصلها التغيير، فإن وسائل الردع لدينا كافية وقوتنا العسكرية الفائقة لا تزال موجودة وفاعلة والسؤال: لماذا لا نجرب ذلك ونختبره؟
ويتطرق في مطالعته التبريرية لعقد التفاهم مع إيران إلى العلاقات مع إسرائيل حيث يضعها ضمن الصيغة الآتية:
«ما يمكنك سماعه من رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتانياهو (الذي أحترمه) الفكرة الآتية: انظروا، إن إسرائيل أكثر عرضة للخطر الآن، وليس لدينا متسع من الوقت يمكّننا من اختبار الأطروحات على منوالكم». إنني أتفهم وأدرك ذلك تماماً... بل أكثر من ذلك، أدرك تماماً عقيدة إسرائيل باعتبار التاريخ المأسوي للشعب اليهودي، بحيث لا يمكنهم الاعتماد حصرياً علينا في ما يتعلق بأمن بلادهم. وما على استعداد لفعله هو الاضطلاع بتلك الالتزامات التي تبعث برسالة واضحة وجلية للجميع في الشرق الأوسط ومنهم إيران: إذا ما تعرضت إسرائيل لهجوم من جانب أي دولة فسنقف إلى جانب إسرائيل فوراً. كما أعتقد أن الاتفاق يجب أن يكون كافياً للاستفادة من تلك الفرصة التي لا تأتي في العمر إلا مرة واحدة لنعرف هل بإمكاننا سحب ملف القضية النووية من على طاولة المفاوضات.
ويبدو بوضوح من هذا الطرح للعلاقة الأميركية - بإسرائيل تقديم نوع من الضمانات للرد على «الهواجس» التي عبر عنها نتانياهو، بالقول أن إيران تمثل التهديد المباشر والأول لأمن إسرائيل، كما سعى رئيس الوزراء إلى تحريض الدول العربية على إيران بقوله أن الخطر الداهم أمامكم ليس مصدره إسرائيل بل الخطر الآتي من إيران.
ويكشف أوباما عن معلومات ذات أهمية عندما يتحدث عن تبادل كثير من الخطابات مع المرشد الإيراني الأعلى آية الله علي خامنئي. ومن المهم إدراك أنه بالنظر إلى التاريخ القائم بين البلدين (أميركا وإيران) هناك حالة عميقة من عدم الثقة ومن غير المتوقع تلافيها قريباً من حيث الخطاب المعلن والمضاد للولايات المتحدة والمعادي للسامية والمناوئ لإسرائيل بما يسبب مقداراً عميقاً من القلق، فهناك توجهات متأصلة في ذلك البلد، لا تعارض مصالح وآراء أمنناً القوي فحسب بل تهدد الأمن القومي لحلفائنا وأصدقائنا في المنطقة وتلك الانقسامات بالفعل حقيقية.
ويبلغ أوباما في «فتواه» الدفاعية عبر فتح صفحة جديدة مع إيران حد القول أن إيران عبر الرئيس حسن روحاني، والمرشد علي خامنئي، تدرك أن نظام العقوبات الدولية الذي فرضناه أدى إلى إضعافها على المدى الطويل. لذلك، لا بد من الاتجاه نحو التغيير.
وبعد...
هذه هي «فلسفة أوباما» في ما يتصل بالتحول الجذري حيال التعاطي مع إيران واعتبارها جزءاً من الحل أكثر منها من المشكلة. ومع صدور تصريحات إيجابية في شأن هذا الإنجاز فإن أوباما اعترف لمن قابلهم في الأيام الأخيرة بما حرفيته: «هناك بعض العقوبات التي ستستمر وتتواصل من حيث عدم ارتباطها بالبرنامج النوي الإيراني، ويدفعنا ذلك إلى نقطة معينة عبرنا خلالها مراراً وتكراراً. فإذا ما تمكنا من وضع اللمسات الأخيرة على الاتفاق النووي وإذا ما التزمت إيران بما فيه، فذلك مقدار كبير من النجاح نكون توصلنا إليه. لكن ذلك لا يعني حداً فاصلاً لمشكلاتنا مع إيران، وربما عند مرحلة ما من إيقاف أنشطة زعزعة الاستقرار التي تضطلع به إيران من حيث رعايتها التنظيمات الإرهابية. وفي اعتقاد أوباما أخيراً أن إيران إذا ما التزمت بمضمون التفاهم فسيمكنها بعد الاستفادة من مكاسب تخفيف العقوبات، البدء بالتركيز على الاقتصاد وعلى شعبها وتبدأ الاستثمارات في التدفق وتبدأ إيران في الانفتاح على العالم.
ويبقى سؤال محوري: ما مدى انعكاس «التفاهم النووي» على الوضع العام في المنطقة؟ يجيب الرئيس الأميركي بالقول: «من الممكن أن نرى مقداراً من التوازن في المنطقة، ويبدأ السنّة والشيعة بالقول أنه يجدر بنا التخفيف من حدة التوترات والتركيز على المتطرفين من شاكلة تنظيم «داعش»، والذين يريدون حرق المنطقة بالكامل إذا ما استطاعوا.
في كل حال «التفاهم النووي» ينطوي على كثير من التحديات ذات الارتباط الوثيق والمباشر بواقع المنطقة في حاضرها ومستقبلها.